كلمة الدكتور ابراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي في معهد السلام الاميركي في واشنطن

كلمة الدكتور ابراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي في معهد السلام الاميركي في واشنطن

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..

كنا قد التقينا قبل عام في هذا المكان، ومع هذه المُؤسَّسة، وقد أدار الندوة السيِّد جون نغروبونتي في حينها، واليوم نعاود الكرّة مرّة أخرى، ونحن نحتاج بين فترة وأخرى أن نلتقي، ونتواصل لتبادل أخبار مُهمَّة جدّاً حول الإرهاب في أيِّ منطقة من مناطق العالم.

العراق يُمثــِّل خط التماسِّ الأوَّل، والجبهة الأولى، لكنه لا يُدافِع عن نفسه فقط، وإنما يُدافِع عن كلِّ دول، وسيادات العالم.

العراق يواجه ثلاثة تحدِّيات، هي: التحدِّي الأمنيّ المُتمثــِّل بالإرهاب، والتحدِّي الاقتصاديّ، والتحدِّي الإداريّ، وهو تركة ثقيلة منذ المرحلة الماضية.

رغم كلِّ هذه التحدِّيات فإنَّ العراق مُصمِّم على الاستمرار، وتحقيق النجاحات، وكنا في العام الماضي أمام وضع أمنيٍّ سيِّئ مُقارَنة بهذه السنة، وقد وضع الدكتور العباديّ رئيس الوزراء خطته سواء كان على الجانب الأمنيِّ، أم على مُستوى الإصلاحات الاقتصاديّة، أم اتخاذ خطوات إداريّة جيِّدة أخذت طريقها إلى مُؤسَّسات الدولة، نعم.. إنَّ التركة ثقيلة، لكنَّ الإرادة القويّة للحكومة الوطنيّة عملت عملها، وجاءت بنتائج جيِّدة، فتشكـَّلت الحكومة، وشملت أكبر عدد مُمكِن من الطيوف العراقـيَّة المُختلِفة، فضمَّت في تكوينتها كلَّ مُكوِّنات الشعب العراقيِّ.

واليوم التجربة السياسيَّة تتقدَّم نحو الأمام، نعم.. تواجه بعض الصُعُوبات، لكنها مُصِرَّة على أن تتمسَّك بهدفها الأساسيِّ، وهو إقامة نظام ديمقراطيّ، وكونها مُتمسِّكة بإقامة نظام ديمقراطيّ فهذا يعني ضمناً أنها يجب أن تـُراعِي حقوق وإرادات كلِّ القوى السياسيّة، وتأخذ مداها، وحريتها في التعبير عن رأيها؛ لذا نحن عازمون على قيام هذا النظام الديمقراطيِّ، وفي الوقت نفسه إتاحة الحُرّية، والفرصة لكلِّ أبناء شعبنا بأن يُدلوا، ويُعطوا آراءهم بكلِّ صراحة.

المُواجَهة مع الإرهاب مُستمِرّة، ولن تتوقـَّف، وترون بين فترة وأخرى نواجه معركة هنا، ومعركة هناك، ولكن ليس بمعزل عن المعارك التي تحصل في العالم، في فرنسا، وفي مصر، ومناطق مُتعدِّدة من الشرق الأوسط تعاني من مُواجَهة الإرهاب.

الإرهاب كليّ لا يتجزَّأ، وهو بمُرُور الأيام يُحاول أن يمتدَّ إلى مساحات جديدة؛ لذا ينبغي الوقوف إلى جانب العراق، كما أنَّ النجاحات التي حققها العراق عبَّرت عن نجاح ليس فقط للشعب العراقيِّ، بل لشعوب العالم أجمع، وإن كان بالدرجة الأساسيّة الشعب العراقيّ هو الموجود في ميدان المعركة، وأهمُّ شيء هو الدم، والشعب العراقيّ يُعطي، ويدفع أبناءه إلى المعركة؛ من أجل أن يحقق الفوز، وقد حقق هذا الفوز؛ لذا يحقّ لكلّ بلدان العالم أن تفرح لفرح العراقيين مادام العراقيون أبطالاً في الساحة، وحققوا هذا الإنجاز الضخم، وفي الوقت نفسه هناك مآسٍ تحصل في العراق، وآخرها ما حصل في منطقة الكرادة. أنا أعزِّي كلَّ العالم، وأعزِّي كلَّ دول المنطقة، والشعب العراقيَّ كلـَّه بتلك المأساة؛ لأنَّ هذه المأساة لا تـُعبِّر عن خسارة عراقـيَّة فقط، فكلّ واحد منكم لديه أطفال، وأمهات، وآباء، وإخوة، وأخوات، وكانت الحرب الجديدة التي جاء بها الإرهاب تعبيراً عن حرب الأسواق.. إذ يبحثون عن سوق، ويُفجِّرونه، ويختارون الوقت المهم، إذ كان الناس على موعد لشراء الهدايا من السوق في كبرى الأعياد الإسلاميَّة المعروفة لأبنائهم، وبناتهم، وأطفالهم وإذا بهم يلتقون مع تفجير بأبشع صورة، فيخطف منهم 300 شخص.. أؤكد لكم أنَّ هذه الموجة التي امتدَّت من المشاعر الطيِّبة التي انعكست على شكل رؤساء الدول، وزراء الخارجيّة، وكثير من المنظمات الدولية، والقوى السياسيّة تعبير إنسانيّ جيِّد بمقدار ما كانوا يفرحون لانتصارات القوات المسلحة العراقية البطلة عندما تدحر داعش، كانوا يُعبِّرون عن مشاعرهم الإنسانية الجيِّدة عندما يواجهون مثل هذه المأساة التي انقضَّت، وقتلت هذا العدد الكبير من المُواطِنين العراقيِّين.

الموصل ستكون بعد الفلوجة بعدما تحقق بالفلوجة، وكاد الإرهاب أن يتجذر في مُجتمَع الفلوجة، لكنَّ إرادة الشعب العراقيِّ أبناء أهلنا، وشعبنا في الفلوجة، وأبناء المدن الأخرى تضافرت جهودهم من أجل أن يُلحقوا الهزيمة بداعش، وقد ألحقوا الهزيمة فعلاً، وجاءت في مُدَّة زمنيّة قصيرة، وبجُهُود أقلَّ من المُتوقـَّع، وبضحايا أقلَّ حجماً من الحجم الذي كان موضوعاً في الحسبان، وهذا يدلُّ على وحدة إرادة الشعب العراقيِّ لتحرير هذه المُدُن من داعش.

الموصل بكلِّ تأكيد تحتاج جهداً استمراراً للجهود التي كنا نحتاجها في منطقة الفلوجة؛ لأنَّ الموصل مدينة كبيرة، وهي ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة بغداد، ومُدَّة سيطرة داعش عليها لعلها تجاوزت السنتين، بل قاربت الثلاث سنوات، وتحتاج إلى جهد، وخطط، لكنَّ أهل الموصل أبطال، ويُدافِعون عن مُدُنهم، ولطالما تعرَّضوا في التاريخ للكثير من الاحتلالات، والاختراقات لكنهم أبوا إلا أن يُحرِّروا مدينتهم، وحرَّروها منذ زمن بعيد في التاريخ حدث ذلك عِدَّة مرات.

الموصل الآن الخندق الأخير الذي نتطلع أن نحقق فيه الهزيمة لداعش. ومرة أخرى أقول: الفوز للشعب العراقيِّ في دحر داعش ليس فوزاً عراقياً فقط، بل فوزاً عالميّاً؛ بما أنَّ داعش تـُشكـِّل تحدِّياً حقيقيّاً لمختلف دول العالم فمن الطبيعيِّ أن تعمَّ الفرحة، وتغمر كلَّ دول العالم عندما تدحر داعش؛ لأنها تدافع عن نفسها، وتدافع عن هذه الدول.

الحكومة العراقية مُصِرّة، وتمضي بشجاعة للقضاء على داعش، وتطارده خندقاً بعد خندق، ومنطقة بعد أخرى، ولكن في الوقت الذي أعلنت في عام 2014 الشهر التاسع بأننا لا نريد أن يُقاتِل أحد من أبناء التحالف الدوليِّ في بلدننا بدلاً عنا، ولا نريد لدمائكم أن تسيل بدلاً عن دماء أبنائنا قد قسَّمت أننا نحتاج ثلاثة مديات، المدى الأوَّل: رعاية النازحين، وقد أوفت دول العالم، والعراقيون لا يُريدون أن يُهاجروا من العراق، أو ينزحوا من مدينة إلى أخرى لولا الظرف الاستثنائيّ، وأنا أشكر كلَّ الدول التي قدَّمت المُساعَدات، واحتضنت أبناءنا، وأتطلع لذلك اليوم الذي يعودون فيه إلى العراق بمحض إرادتهم؛ ليساهموا في بناء العراق.

المدى الثاني: هو مدى تقديم الخدمات الإنسانيّة المُتعدِّدة، والسلاح، والخدمات العسكريّة، وإيجاد الغطاء الجوّي، وماشاكل ذلك.

المدى الثالث: وهو دعم العراق في إعادة بناء البنية التحتيّة، ولعله ضربتُ في وقتها مثلاً على مشروع مارشال الذي حصل تجاه ألمانيا بعدما انتهت من الحرب ساعدتها الدول عامة وأميركا بصورة خاصّة، وبدأت ألمانيا صفحة جديدة، واستطاعت أن تبني نفسها كدولة، وانتمت إلى البيت الغربيِّ، وقد كان الشعب مُتفاعِلاً مع الحكومة. الحكومة العراقـيَّة تعاني من الوضع الاقتصاديِّ، والعراق بلد غنيّ، لكنه الآن يمرُّ بظرف استثنائيّ ليس سِرّاً عليكم أنَّ العراق مُتعدِّد الموارد، فهو بلد النفط، والزرع، والنهرين، وبلد العتبات المُقدَّسة، والتاريخ، والحضارة فهو أوَّل بلد في العالم انبثقت منه الحضارة العالميّة منذ 6000 سنة لكنـّه الآن يمرّ بظرف استثنائيّ، وعلى المُجتمَع الدوليِّ أن يتحمَّل مسؤوليَّـته خُصُوصاً أنَّ العراق يُحارب داعش نيابة عن العالم أجمع، فينبغي أن يقف إلى جانب العراق.. أنا أسجِّل شكري لكلِّ الدول التي وقفت إلى جانب العراق، وأمدَّته بالمساعدات المختلفة سواء رعاية أبنائنا المُواطِنين في كلِّ بلد من البلدان، وقدَّمت بعض المُساعَدات الإنسانيَّة، والماليَّة، وبعض المُستلزَمات العسكريَّة من تدريب، ومُستشارين.. أسجِّل لهم شكري، وتقديري لهذا الموقف المُشرِّف.

العراق يتطلع إلى ضرورة إعادة بناء المُدُن التي دمَّرها الإرهاب؛ فسياسة داعش أنـَّها عندما تنسحب من أيِّ مدينة تعمل على تدميرها بالكامل، بل إنـَّها زرعت في أغلب البُيُوت ألغاماً عندما يأتي أبناء الجيش العراقيّ لكلِّ بيت من البيوت يُفاجَأون بتفجير هذا البيت؛ لذا ما كان سهلاً، بل هذا كلـَّف القوات المسلحة العراقـيَّة في الفلوجة أن تأخذ وقتاً إضافيّاً، مع تجنب الدُرُوع البشريَّة إذ أخذ داعش بعض العوائل دُرُوعاً يحتمي بها.

فمُراعاةً لهاتين الحقيقتين، وهما: مُواجَهة داعش، ومُراعاة المواطنين من أهل الفلوجة لئلا يقفوا ضحيّة؛ بسبب الوحشيَّة التي تتمتع بها داعش كلفت الكثير، ومع ذلك سجَّلت القوات المسلحة العراقـيَّة انتصاراً، وتحرَّكت في إطار التعامل الإنسانيِّ وهي في ساحة المعركة. قد يكون هذا شيئاً سهلاً عندما نصفه، لكنه ليس سهلاً في ساحة المعركة، وقد تحقق، وستكون الخطة في تحرير الموصل ضمن نفس السياسة.

العراق يتمسَّك بالحفاظ على هويّـته الديمقراطيّة، ويُريد أن يكون نظاماً ديمقراطيّاً ضمن كونه يحفظ الإطار الديمقراطيَّ يُتيح الفرصة لكلِّ القوى السياسيّة أن تأخذ حقها بحُرّية والتعبير عن الرأي؛ لذلك تجدون التظاهرات تخرج في الشارع، وتـُعبِّر عن رأيها بغضِّ النظر عن أن تكون بعض الآراء صحيحة أو خطأ، لكنَّ هذا حقّ طبيعيّ، وإلا لا يُمكِن أن نـُسمِّي البلد بلداً ديمقراطيّاً ما لم يكن الشعب والقوى السياسية تمارس دورها بكلِّ حُرّية.. هذا يُصِرُّ عليه النظام العراقيُّ الجديد؛ لذلك لم تـُرسَل شرطة، أو قوات أمن لقمع التظاهرات، وإنما أرسلت لحفظ سلامة المتظاهرين، وتأمين الغطاء الأمنيِّ لهم، وفي الوقت نفسه ضمن الاحترام، وحفظ القانون هذا الذي كادت بعض الجهات أن تسيء فهمه.

تعاملنا على مُستوى علاقتنا التي رسمناها في ستراتيجيّة العلاقة للدبلوماسيّة العراقـيَّة مع دول المنطقة في الشرق الأوسط، ودول العالم على فلسفة إقامة العلاقة بين العراق وأيّ دولة من دول العالم بناءً على المصالح المُشترَكة، والمخاطر المُشترَكة، والأصل هو إنَّ عندنا علاقة، ولا نسأل أنفسنا: لماذا تـُوجَد لدينا علاقة، بل لماذا لا تـُوجَد لدينا علاقة؟

العلاقة أصل في هذا العالم عالم الاتصالات، عالم الانسجام، عالم تبادل المصالح، عالم الخطر المُشترَك، والإرهاب المُشترَك، وداعش الذي قـُرِعت طبوله في كلِّ بلد من بلدان العالم، فلا نسأل: لماذا لدينا علاقة، بل لماذا ليس لدينا علاقة؟

نحن نتعامل مع دول العالم بمحبّة، وثقة، ويُبادلنا العالم نفس المحبّة، ونفس الثقة. لقد أمَّت بغدادَ كلُّ دول العالم، وزارت بغداد، وزرناها في عواصمها في مُختلِف مناطق العالم سواء كانت أوروبا، أم أميركا، أم أفريقيا، أم كلّ دول العالم.

العراق موجود في منطقة مُهمَّة من العالم، وحولها عِدَّة دول: تركيا، وإيران، وسورية، والكويت، والسعوديّة، والأردن. كلُّ واحدة من هذه الدول لها نظامها السياسيّ: يُوجَد نظام ليبراليّ إسلاميّ، ونظام إسلاميّ ولاية الفقيه، ونظام ملكيّ، ونظام أميريّ، ونظام جمهوريّ.. على العراق أن يتعامل مع كلِّ هذه الدول من دون أن يتنازل عن هويَّـته، ومن دون أن يتدخـَّل في الشُؤُون الداخليَّة لهذه الدول، كما نتعامل بأكثر من هذا. فبعض هذه رُبَّما تكون بينها تقاطعات حادّة، كما هو موجود على سبيل المثال: بين تركيا وسورية، ولكن لدينا علاقة مع سورية، وكذلك مع تركيا، وهناك تباعد بين السعوديّة وإيران، ولدينا علاقة مع كلتيهما.

نظريَّـتنا في العلاقة على مدِّ الجُسُور، وعدم التدخـُّل في الشُؤُون الداخليّة، والابتعاد عن سياسة المحاور.

مرّة أخرى أوجِّه شكري، وتقديري إليكم، وكلِّ الدول التي وقفت إلى جانبنا في هذه المعركة خصوصاً أنَّ المعركة ليست معركة عراق مع دولة أخرى، بل معركة إنسانية واسعة تتسع لكلِّ الفرقاء الدوليِّين، والإقليميِّين، والوطنيِّين المحليِّين، وأتمنى لكم الموفقـيَّة.